- 4916095470403+
- board@dadd-initiative.org

- نوع الملف: PDF
- التصنيف: حكايات وحوار
- تأليف: علا الخليل
- رسوم: إكرام نوفل
خلاصة القصة
بالتسامحِ والغُفران سَننعمُ بالسلامِ والراحةِ، وسيُدخل اللهُ الطمأنينةَ لقلوبِنا، أن تكونَ مُتسامحًا هذا يَعني أنَّكَ ستُحرّر نَفسكَ من قيودٍ أنتَ في غِنى عنها، فكيفَ لو كانَ من ستُسامحهُ وتغفرَ لَهُ هوَ صَديقٌ مُقرَّبٌ، أفلا يَستحقُ هذا؟
- الكاتبة علا الخليل
حاصلة على إجازة في الهندسة المدنية، لها شغف بالكتابة، وتكتب للأطفال وتحلم معهم بعالم أجمل، وتؤمن بهم، مدركةً أن عالم الكتابة للطفل بحر واسع لا يمكن التجديف خلاله بسهولة.
- الرسامة إكرام نوفل
رسامة كتب أطفال وقصص مصورة من اليمن، خريجة بكالوريوس جرافيك ديزاين من الجامعة اللبنانية الدولية – عدن، وتدرس دبلوم عالي / تخصص مساعد طبيب عام.
تعمل كأستاذة محاضرة في الجامعة اللبنانية وكذلك كرسامة مستقلة، وعملت مع عملاء من داخل اليمن وكذلك من الوطن العربي وأيضاً مع عملاء دوليين. تطمح إكرام للعمل مع دور النشر العربية والأجنبية في مجال قصص الأطفال والكومكس، وكذلك العمل في مجال الرسوم العلمية الطبية.
كانَ جُحا يستريحُ على مقعدٍ في الحديقةِ كما هيَ عادتهُ
يوميًا بعد جولةٍ منَ المشي والرياضةِ، عندما اقتربَ منهُ
بعضُ الصبيةِ وهمْ على أشدِّ ما يكونون مِنَ الجِدالِ وَالخِلافِ،
البَعضُ يَصرخُ وَالبَعضُ يوشكُ على البُكاءِ، أما أحمدُ فقدْ بَدا
أكثرَهُم غضبًا، وَلَقد همَّ بِضربِ صَديقهِ مُفيداً، عندها تدخّلَ
جُحا وطلبَ منهمْ الاقترابَ قائِلًا:
اقتَرِبوا يا أحبَّتي هيَّا.
جدِّي جُحا أنتَ هُنا في الوقتِ المناسبِ!! قالَ الصَّبيُّ حَميدٌ.

«ما الذي حَدثَ يا أولاد أنا أعرفُكمْ جَيدًا، وأعرفُ طباعَكمْ واحدًا واحدًا،
ولم أتعوَّد أنْ أراكمْ إلَّا أصدقاءَ تحبُّونَ بعضَكم البعضَ ولا خِلافَ يُعكِّرُ
صَداقَتَكُم.» سَألَهُم جُحا مُستَغرِبًا.
قالَ حَميُد: يا جدِّي جُحا لقد حَدثَ خِلافٌ بَينَ أحمدٍ وَمفيدٍ منذُ حَوالي الأسبوعين،
وَفي هذا الوقتِ حاولَ مفيدٌ الاعتذارَ، وَتبريرَ سلوكِهِ لأحمد أكثرَ مِن مَرةٍ،
لكنَّ أَحمدًا لم يَقبل الإنصاتَ لهُ أو لَنا، وَظلَّ مُتحاملًا على مفيدٍ كلِّ هذا الوقتِ،
لِدَرجةِ أنَّه أَصبحَ صامتًا وَواجمًا طيلةَ وَقتِهِ في المدرسةِ،
وَاليومَ حاولنا كلُّنا أن نُصالحهُ معَ مُفيدٍ، وَلكنَّ الأمرَ انتهى بِهذا الجِدالِ.

تدخَّلَ أحمد ليقولَ:
جدِّي، إنَّ مُفيداً أساءَ إليَّ واستهزأَ بي أَمامَ كلِّ الطلابِ في الصَّفِ،
وأنا لنْ أسامِحَهُ ما حَييتُ. قالَ أحمدُ بانفعالٍ، وغضبٍ بالغٍ،
وَهمَّ بالمغادرةِ عِندما أوقَفهُ جُحا قائِلًا:
انتَظر يا أحمد، لا تذهبْ. لنْ أطلبَ منكَ مسامحةَ صَديقِكَ الآنَ،
ولكنَّني سأحكي لَكُم هذهِ الحكايةَ، وستُقرّر بَعدها كيفَ سَتتصرَّف.
وافقَ الصبيةُ وتَحلَّقوا حَولَ مقعدِ جُحا منتظرينَ أنْ يبدأَ الحكايةَ.

قال جُحا: حَدَثَ ذَاتَ مَرّةٍ أنَّنِي مَلَأْتُ الْخُرْجَ أَحْجَارًا،
ووَضَعْتهُ عَلَى ظَهْرِي ثم رَكِبَتُ الْحِمَارَ، أحُثُّهُ عَلَى السُّرعَةِ
مُغادرًا الدِّيَارَ، فَلِي صَدِيقٌ سَمِعْت بِأَنَّهُ يرقُدُ مريضاً في
السريرِ، وَمَن أَوْصَلَ لِي الْخَبَرَ قَالَ:
عَجِِّل فَالْأَمْر جدُ خَطِير، لَرُبَّمَا تَصِل فَتَرَاه، وَرُبَّمَا
تَزُورُ مَثْوَاهُ فَأَيّ الْأَمْرَيْنِ ستختارُ يا جحا؟
أتتكاسلُ عَنْ رُؤْيَاهُ أَم تشدُّ الرِّحَالَ يَا تُرَى!
قلتُ له مؤكدًا: كَيْفَ لَا أشدُّ رحالي! وَهَذَا
صَدِيقُ طفولَتي وَشَبابي!

وَلَكِنِّي يا أحبَّتي كنتُ قدْ رَأَيْتُ مِنْ صَديقيَ مَا آذَانِي وأزعجَنيَ،
فَامْتَلأَتُ بِغَضَبٍ لَيْس بِالْقَلِيل، وَوَددتُ لَو أنَّنِي أَصِلُ عُنُقَه لأنالَ
مِنْه فَيَشفى غَليلي، وَلَكِنَّه الآنَ مَريضٌ عَلَى فِرَاشِهِ يَئِنُّ، وَلذكرانا
عَلَى ما يَبدو يَحنُّ، وَكُلَّمَا فَكَّرْتُ أنَّنِي لا بُدَّ أَنْ أَنْسَى ما بدا مِنْهُ أَكَاد أُجَنُّ.
«فماذا فعلتَ؟» قالَ أحدُ الصبيةِ مُتَسائِلًا، وَمُستعجِلًا. رَدَّ جُحا الجوابَ:
حَسَمتُ الْقَرَارَ آخِرَ الْأَمْرِ، وَأَحْضَرْتُ الْخُرجَ الَّذِي أَضَعهُ عَلَى ظَهْرِ
الْحِمَارِ، ثم بَدَأَتُ أتجوَّلُ حَوْل الدِّيَار، وَأَنَا أسْتَذْكِرُ خِصَامي، وَأَسْبَابَ
انزعاجيَ وغضبي مِنْ صَاحِبي، وَكنتُ كُلَّمَا طَرَأَتْ ذِكْرَى مُزْعِجَةً عَلَى
بَالِي أَضَع حَجراً فِي الْخُرْجِ، وَكُلَّمَا تَذَكَّرْتُ حَدِيثاً آلمني مِنْهُ أَضَع حَجَرًا،
وَهَكَذَا إلَى أَنْ امْتَلَأ الْكِيسُ بِالْحِجَارَة وَكَاد يَتَمَزَّقُ لِهَوْلِ ما فيهِ، كَمَا هُوَ
قَلْبِي الْمُمْتَلِئ حُزْناً مِنْ هَذَا الَّذِي يُسَمَّى صَدِيق، ثمَّ وضَعْتُ الْخُرْج
عَلَى ظَهْرِي وَرَكِبَتُ الْحِمَار، نَكَادُ أَنَا وَهوَ نَهوي عَلَى وُجُوهنَا مِنْ ثِقَلِ
مَا نَحْمِلُ…

حتى قَالَ لِي أَحَدٌ مَرَرْتُ بِهِ وَأَنَا أنهرُ حِماريَ ليسيرَ عَلَى
عَجَلٍ: ما الذي تَحْمِلُه يا جحا عَلَى ظَهْرِك؟ ألا فَقُلْ؟
أَجبتُه بأَنَّهَا نِيرَانٌ تَشْتَعِل فِي قَلْبِي،
وأَفْكَارٌ مُزْعِجَةٌ تتعاركُ فِي صَدْرِي.
فردَّ مُستهجنًا: «فما ذَنبُ هَذَا الْحِمَارِ الْمِسْكِين
ليحمِلَكَ، وَيَحمِلَ وِزْرَك!»
قَالَ هَذَا وَهُوَ يَبْتَعِدُ عَنِّي، وَيُلَوِّحُ بِيَدِه متمتمًا
كَمن يَقُولُ لنفسهِ بأنَ جُحا قَد أَصَابَه مَسٌّ
أَوْ جُنُون، حتَّى أتى بهذا الفعلِ المأفون!!

فأَشْفَقْت على نَفْسِي وَعلى هَذَا الْحِمَارِ وَرَميتُ بأَوَّلِ حَجَرٍ
مِنَ الخُرجِ في الطريقِ، بَعْدَ أَنْ غالبَتني الذِّكْرَيَاتُ والشجونُ.
«فماذا تَذكرتَ يا جُحا؟» تَساءَلَ الصِبيةُ.
أجابَهُم جُحا بِنبرةِ المُشتاقِ: «تَذَكَّرَتُ كَيْفَ تَربَّينا أَنَا وَصَدِيقِي
فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، كُنَّا صِغَارًا نلهو مَعًا، فَلَا يُعَكِّرُ صَفْوَ صداقتِنا
خِصَامٌ، أَو جفاءٌ، وتَذَكَّرْتُ كَيْفَ أَمْسَكَ بِيَدِيَ وساعدَني عِنْدَمَا
كِدْتُّ أَغْرَقُ فِي النهرِ، فَرَميتُ واحدًا من الأحجارِ، وَتَذَكَّرْتُ
مَطْلَعَ الشَّبَابِ وَكَيْفَ كُنَّا نحلمُ ونُخطِّطُ لأولِ مشاريعِنا مَعًا،
فَرميتُ حَجَرًا آخرَ.»

هكذا يا أحبَّتي ظَللتُ كلَّ الطريقِ أَتَذْكَّرُ لَحَظَاتِ السَّعَادَةِ
مَع صَدِيقِي، وكنتُ كُلَّمَا تَذَكَّرْتُ حَادِثَةً لَطِيفَةً يَبْتَسِمُ لَهَا
قَلْبِيَ أَرْمِي حَجَرًا مِنْ خُرجي وأنا مسرورٌ، وَكُلَّمَا اقْتَرَبَتْ
إحدى الْأَفْكَارِ الْمُزْعِجَةِ أطردُها سَرِيعًا وَلَا أَسْمَح لَهَا بِالْعُبُورِ.

وَهَكَذَا حَتَّى وَصلتُ دِيَارَ رَفِيقِي وَأَنَا أَرْمِي بآخَرِ
حَجَرٍ باقٍ في الْخُرْج، بَعد أَن أفْرغتُ كلَّ ما فيهِ،
وما في قَلْبِي مِنْ العِبء الذي أَثْقَلَهُ وَأَتْعَبَهُ.
تَنَفَّستُ عَميقًا إذ شَعَرْتُ بِراحَةٍ لَمْ أَشْعُرْ بِهَا مُنْذُ
زَمَنٍ طَوِيلٍ، وتَعجَّبتُ مِنْ حَالِي كَيْفَ قَيّدَتُ نَفْسِي
فِي سِجْنٍ من الغضبِ، وَالرَّغْبَةِ بِالِانْتِقَامِ،
وَأَنَا الَّذِي كُنْتُ أَظُنُّ بِأَنَّنِي أُعَاقِبُ صَدِيقِي،
وَلَكِنَّنِي كُنْت أُعَاقِبُ نَفْسِي، وأجلدُها بِهَذِه النِّيرَانِ!

ومَا إنْ وَصَلَتُ أعتابَ بابِهِ، حَتّى سَمِعْتُ خَبْطًا وصراخًا لَم أُميِّزهُ بكاءٌ، أَم عَوِيلُ؟!
فَرَحٌ أَم تَهْلِيلُ؟! أَمَاتَ صَدِيقِي، أم أَنَّ الأقدارَ مدَّت بِعُمْرهِ، وَأَطَالَتْ بِحَيَاتِه؟!
كتمَ الصبيةُ أنفاسَهُم وَحَدَّقوا بجُحا يَنتظرونَ قولَه التالي:
قفزتُ قَفْزَةً عَن الْحِمَارِ، كِدْتُ أَصلُ فِيهَا بَابَ الدَّارِ، وَأَنَا أُنَادِي:
يا صديقًا كُنْتَ خِلِّي، فَكَيْف صِرْتَ مِن الْأَعَادِي!!
إِنِّي وَاللَّهِ نَسِيَتُ ما بيني وَبَيْنَكَ من شقاقٍ، فَقُم إلَيّ ولاقني بالعناقِ.

ظَللتُ أصيحُ وَأنادي صَديقي، حَتّى سَمِعْتُ صَوْتَ زغاريدَ اِحْتِفَالٍ وَتَهْلِيلٍ،
وَكأن لَدَى الْقَوْمِ عُرْساً، لَا مَرضاً وَيَأْساً. وَإِذ بِصَوْتِ صَدِيقِي يُنَادِي:
يا دارًا بِهَا الْحَبِيب مَرَّ
قَوْمِي فأَشعلي نَارَ الْفَرَحِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ
زَغردنَ يا بَناتي فجُحا الْيَوْمَ إلَيْنَا آتٍ.

ضَحِكَ أحمدُ، بَعدَ أن أحسَّ بالانفراجِ، وبانشراحِ صَدرهِ، وضَحِكَ الأصدقاءُ جميعا،
وَهَمَّ لملاقاةِ مُفيدٍ وهوَ يَقولُ: وأنا أيضًا سأُفرغُ خُرجيَ ممَّا فيهِ من الغضبِ والحزنِ.
تعانقَ الصَّديقانِ، وَصفَّقَ الرِّفاقُ، وَعلَتْ هتافاتُهُم، وَغادروا مقعدَ جُحا وُهُم
يَضحَكون، وَيَقفزونَ فرحًا، وكأنَّ ما حَدثَ بَينَهُم مِن خِلافٍ لمْ يَكن.
